جميع القصص

نسائم حكمة الماضي تُنعش الحاضر: التراث القطري الأصيل وفن التكيّف مع حرّ الصيف

قبل وصول الكهرباء وانتشار المكيّفات، عرف أهل قطر كيف يواجهون حرارة الصيف بابتكارات خلّاقة وروح جماعية مدهشة.

المشاركة مع صديق

من العمارة التقليدية الذكية، إلى ملابسهم المصممة للتكيف مع الأجواء الحارة، وصولاً إلى التجمعات الصيفية وحكاياتها الشعبية، حوّل القطريون الحر من تحدٍّ إلى فرصة لبناء روابط اجتماعية وإنتاج ثقافة غنية. واليوم، تبقى هذه الممارسات التراثية محفوظة بعناية في متاحف قطر، لتُقدم لنا عبر مقتنيات متحف قطر الوطني، نافذةً على زمنٍ مضى، وكيف استطاع القطريون أن يعيشوا حياة مزدهرة رغم الحر، وأن يتكيفوا مع صعوبات المناخ.

عمارة مصممة للوقاية من الحر

عند التأمل في ابتكارات التبريد التي تزخر بها قطر اليوم، قد يخال المرء أنّ الحال كان على الدوام هكذا في هذه الأرض التي تعانقها الشمس. ففي قلب العاصمة، تنبثق النسمات من بين الفتحات لتلطّف هواء ساحاتنا المزدحمة، وتتنفس ملاعبنا الرياضية اعتدالاً لا يتغير بتغير فصول السنة.

ar

كانت أبراج الهواء (البراجيل) في قطر تُشيَّد لالتقاط نسمات الهواء وتبريد المنازل بطريقة طبيعية.

غير أنّ بدايات هذه الحلول المبتكرة كانت أبسط وأعمق؛ إذ أملت الحاجة ابتكار أبراج الهواء (البراجيل)، تلك الهياكل التي ارتفعت لتصطاد أية نسمة هواء عابرة وتوجهها إلى داخل المنزل، بنظام تبريد طبيعي سبق أنظمة التهوية الحديثة بقرون. وفي المتحف الوطني في قطر، يستعيد الزائر هذا التراث عبر نماذج مصغّرة لمنازل تقليدية وصور أرشيفية من مدن مثل الوكرة والدوحة.

آنذاك، شُيّدت البيوت غالباً من حجارة المرجان والجص؛ وهي مواد صقلتها الطبيعة لتحفظ البرودة، فيما تكاملت الأفنية الداخلية والممرات المظللة والأسقف العالية لتبقي المناخ الداخلي معتدلاً. هذه الحلول التقليدية، المولودة من رحم الضرورة، ما تزال إلى يومنا هذا مصدر إلهام للتصاميم المستدامة في قطر.

ملابس تلائم المناخ

منذ قديم الزمن، ارتدى القطريون ملابس تجمع بين الوقاية من أشعة الشمس وحرارتها والقدرة على التبريد، وما تزال هذه الملابس التقليدية حاضرة إلى الآن في حياتهم اليومية. ففي الصحراء، حيث تتباين درجات الحرارة بين نهارات لاهبة وليالٍ أبرد نسبياً، كان لا بد للملابس من أن تساعد على التكيف مع تقلبات الطقس المستمرة.

A man in traditional Qatari attire looking up at Tony Smoths lifesize art piece, Smoke

الألوان الفاتحة تعكس الحرارة فتمنح برودة في الصيف، بينما تحتفظ الألوان الداكنة بالدفء خلال فصل الشتاء.

في الصيف، شاع ارتداء الألوان الفاتحة، كالأبيض، لقدرتها على عكس أشعة الشمس، بينما في الشتاء، فضّل القطريون الألوان الداكنة مثل البني والرمادي والكحلي لقدرتها على حفظ الحرارة. هذا التغيير بين الألوان بحسب المواسم ما يزال ماثلاً في الزي القطري حتى اليوم، خاصة في ألوان الثوب والعباءة.

تاريخياً، ارتدى سكان الساحل والصحراء في قطر ملابس مصنوعة من مواد طبيعية كالقطن والصوف الخفيف لمتانتهما وقدرتهما على تمرير الهواء، فجاء ثوب الرجل فضفاضاً يتيح تدفق الهواء، بينما وفّرت العباءة للمرأة الوقاية من أشعة الشمس والرمال. أما الغترة والشيلة فوفرتا حماية للرأس والوجه، وغطاءً يمكن تعديله على مدار اليوم بحسب الظروف المناخية.

صالة عرض في متحف قطر الوطني تحتوي على قطع تقليدية تستعمل في الصحراء

في قطر، تعكس الملابس مزيجاً من المناخ والتقاليد والهوية، حيث تجمع بين الطابع العملي وروعة الحِرف اليدوية المطرّزة التي توارثتها الأجيال.

ويمكن للزوار اليوم الاطلاع عل هذا الإرث من التكيف في صالة "الحياة في البر" بمتحف قطر الوطني، حيث تُعرض مجموعة من الملابس والمنسوجات التي تروي قصة علاقة ما انفكّت قائمة بين الأزياء والمناخ.

ورغم أن التصاميم المعاصرة غالباً ما تستخدم أقمشة حديثة وطرق خياطة عصرية، إلا أن المبادئ الأساسية تبقى كما هي، حيث ما يزال اللباس في قطر يعكس توازناً بين الجانب العملي، والأصالة، والهوية الشخصية. كما أن العديد من المنسوجات ما تزال تُخاط أو تُطرّز يدوياً، ما يشهد على الحرفية والدقة المتوارثة عبر الأجيال.

صالات العرض
لقطة داخلية لإحدى صالات العرض في متحف قطر الوطني تضم سفينة الداو التقليدية

الفيلم المعروض: الحياة في البرّ، 2017. إخراج: عبد الرحمن سيساكو

حيث الحكايات والتجمعات الصيفية

في أشد ساعات النهار قيظاً، اعتادت العائلات القطرية الاجتماع تحت ظلال المجلس الوارفة، سواء داخل البيوت أو تحت عرائش سعف النخيل، في طقوس ممزوجة بالسَّكينة وعبق التراث وتقاليد الضيافة العربية العريقة. لم يكن المجلس مجرد ملاذ يقي من حرارة الصيف، بل كان وما يزال القلب النابض للبيوت في قطر. فيه تُروى الحكايات، وتُنشد القصائد، وتنتقل الأخبار، ويُكرم الضيف، ولا تخلو جلساته أبداً من رائحة القهوة العربية، وطبق التمر الحلو.

كان المجلس عبر الزمن الملتقى الذي يورث فيه كبار السن الحكمة والمرويات والحكايات الشعبية إلى الأبناء، في أجواء تفوح منها روائح البخور، وتصطك فيها فناجين القهوة الرقيقة بإيقاع جميل، لتغدو اللحظة طقساً حميمياً يبعث على الألفة ويجمع القلوب، حتى في أكثر الساعات سكوناً.

هيكل يشبه الخيمة مع أعمدة من الخيزران تحيط به في منتصف فناء محاط بأشجار النخيل.

خيمة على الطراز التقليدي، مُقامة في ساحة متحف قطر الوطني، تجسّد تراث قطر في التجمع والضيافة.

واليوم، ما يزال المجلس رمزاً أصيلاً من رموز الهوية القطرية، فهو المساحة التي يجتمع فيها الأهل والأصدقاء لتبادل الأحاديث اليومية، وهو ملتقى للذكر والعبادة، والاحتفال بالمناسبات العائلية والدينية، مثل الأعياد وشهر رمضان المبارك. فيه يُكرَم الضيف، وتدور النقاشات، وتترسخ الأواصر المجتمعية.

ومن خلال الدلال والمباخر والوسائد المطرزة وغيرها من المقتنيات والقطع الفنية المعروضة، تتيح متاحف قطر لزوارها أن يعيشوا تجربة فريدة تحاكي عبق مجالس البيوت القطرية الأصيلة، وتأخذهم في رحلة تستحضر إرث ثقافة قائمة على الألفة والمحبة، ودفء الذكريات، والتناغم مع المواسم والفصول.

الحكمة الخالدة

لم تأت أساليب القطريين للتكيّف مع حرارة الصيف بدافع إيجاد حلول فحسب، بل كانت تجسيداً لحكمة عميقة وفلسفة حياة بسيطة تقوم على الانسجام مع البيئة وتجنب التبذير والإسراف. فالمنازل شُيدت بمواد محلية لتدوم وتُحافظ على اعتدال جوّها، والملابس صُنعت من أقمشة طبيعية وخفيفة لتوفر الراحة وتقي من الحر بأقل قدر من المعالجة، والمجلس كان ملاذاً للتآلف وتشارك المأكل والمشرب، بما أسهم في الحد من الهدر.

فلسفة حياة عكستها تقاليد مجتمع اكتفى أفراده بما كانوا يُرزقون من قوت يوم، وكيّفوا ملابسهم لتناسب تقلبات الفصول، وتقاسموا معاً الطعام والحكاية والمكان.

واليوم، ما تزال تلك الحكمة حاضرة في تفاصيل حياة القطريين، وفي قاعات المتاحف كما في الممارسات الحية. ومع كل صيف يعود، تحمل إلينا هذه المقتنيات والقصص ومضة من عبق الماضي، تذكّرنا بأن ما ورثناه من الأجداد لم يكن مجرد تقاليد، بل بوصلة تُرشدنا إلى أسلوب حياة مستدامة، ونسائم عليلة تُلهم حاضرنا ومستقبلنا.